سورة الأحقاف - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحقاف)


        


{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)}
{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة إلى حكاية ما هو أشنع منها وهو الكذب عمدًا على الله تعالى فإن الكذب خصوصًا عليه عز وجل متفق على قبحه حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر فإنه وإن قبح فليس بهذه المرتبة حتى تكاد تعد معرفته من الأمور المرغوبة، وما في {أَمْ} المنقطعة من الهمزة معنى للإنكار التوبيخي المتضمن للتعجب من نسبته إلى الافتراء مع قولهم: هو سحر لعجزهم عنه، والضمير المنصوب في {افتراه} كما قال أبو حيان {لِلْحَقّ} [الأحقاف: 7] الذي هو الآيات المتلوة، وقال بعضهم: للقرآن الدال عليه ما تقدم أي بل أيقولون افتراه.
{قُلْ إِنِ افتريته} على الفرض {فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئًا} أي عاجلني الله تعالى بعقوبة الافتراء عليه سبحانه فلا تقدرون على كفه عز وجل عن معالجتي ولا تطيقون دفع شيء من عقابه سبحانه عني فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه، فجواب {ءانٍ} في الحقيقة محذوف وهو عاجلني وما ذكر مسبب عنه أقيم مقامه أو تجوز به عنه {هُوَ أَعْلَمُ بما تُفِيضُونَ فِيهِ} بالذي تأخذون فيه من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته وتسميته سحرًا تارة وافتراءً أخرى، واستعمال الإفاضة في الأخذ في الشيء والشروع فيه قولًا كان أو فعلًا مجاز مشهور، وأصلها إسالة الماء يقال: أفاض الماء إذا أساله، وما أشرنا إليه من كون {مَا} موصولة وضمير فيه عائد عليه هو الظاهر وجوز كون {مَا} مصدرية وضمير {فِيهِ} للحق أو للقرآن {كفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} حيث يشهد لي سبحانه بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والجحود، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم في الطعن في الآيات، واستؤنف لأنه في جواب سؤال مقدر، و{بِهِ} في موضع الفاعل بكفى على أصح الأقوال، و{شَهِيدًا} حال و{بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} متعلق به أو بكفى {وَهُوَ الغفور الرحيم} وعد بالغفران والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله تعالى عليهم إذ لم يعاجلهم سبحانه بالعقوبة وأمهلهم ليتداركوا أمورهم.


{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مّنَ الرسل} أي بديعًا منهم يعني لست مبتدعًا لأمر يخالف أمورهم بل جئت بما جاؤا به من الدعوة إلى التوحيد أو فعلت نحو ما فعلوا من إظهار ما آتاني الله تعالى من المعجزات دون الإتيان بالمقترحات كلها، فقد قيل: إنهم كانوا يقترحون عليه عليه الصلاة والسلام آيات عجيبة ويسألونه عن المغيبات عنادًا ومكابرة فأمر صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك، ونظير {بدع} الخف عنى الخفيف والخل عنى الخليل فهو صفة مشبهة أو مصدر مؤول بها، وجوز إبقاؤه على أصله. وقرأ عكرمة. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة {كُنتُ بِدْعًا} بفتح الدال، وخرج على أنه جمع بدعة كسدرة وسدر، والكلام بتقدير مضاف أي ذا بدع أو مصدر والاخبار به مبالغة أو بتقدير المضاف أيضًا.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكون صفة على فعل كقولهم. دين قيم ولحم زيم أي متفرق، قال في البحر: ولم يثبت سيبويه صفة على هذا الوزن إلا عدي حيث قال: ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع وهو قوم عدي، واستدرك عليه زيم وهو استدراك صحيح، وأما قيم فمقصور من قيام ولولا ذلك لصحت عينه كما صحت في حول وعوض، وأما قول العرب: مكان سوى وماء روى ورجل رضا وماء صرى فمتأولة عند التصريفيين إما بالمصدر أو بالقصر، وعن مجاهد. وأبي حيوة {بِدْعًا} بفتح الباء وكسر الدار وهو صفة كحذر.
{وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ} أي في الدارين على التفصيل كما قيل.
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال في الآية: أما في الآخرة فمعاذ الله تعالى قد علم صلى الله عليه وسلم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ولكن ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم السلام من قبلي أم أقتل كما قتلت الأنبياء عليهم السلام من قبلي ولا بكم أأمتي المكذبة أم أمتي المصدقة أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفًا أم المخسوف بها خسفًا ثم أوحى إليه {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} [الإسراء: 60] يقول سبحانه: أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك فعرف عليه الصلاة والسلام أنه لا يقتل ثم أنزل الله تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ وكفى بالله شَهِيدًا} [الفتح: 28] يقول: أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الأديان ثم قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام في أمته: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] فأخبره الله تعالى بما صنع به وما يصنع بأمته، وعن الكلبي أنه صلى الله عليه وسلم قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين: حتى متى نكون على هذا؟ فقال: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأترك كة أم أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها يعني في منامه ذات نخل وشجر.
وحكى في البحر عن مالك بن أنس. وقتادة. وعكرمة. والحسن أيضًا. وابن عباس أن المعنى ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، وأخرج أبو داود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه قال في الآية: نسختها الآية التي في الفتح يعني {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] فخرج صلى الله عليه وسلم إلى الناس فبشرهم بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال رجل من المؤمنين: هنيئًا لك يا نبي الله قد علمنا الآن ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى في سورة الأحزاب (47) {وَبَشّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلًا كِبِيرًا} وقال سبحانه: {لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} [الفتح: 5] فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم. واستشكل على تقدير صحته بأن النسخ لا يجري في الخبر فلعل المنسوخ الأمر بقوله تعالى: {قُلْ} إن قلنا: إنه هنا للتكرار أو المراد بالنسخ مطلق التغيير.
وقال أبو حيان: هذا القول ليس بظاهر بل قد أعلم الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام من أول الرسالة بحاله وحال المؤمن وحال الكافر في الآخرة، وقال الإمام: أكثر المحققين استبعدوا هذا القول واحتجوا بأن النبي لابد أن يعلم من نفسه كونه نبيًا ومتى علم ذلك علم أنه لا يصدر عنه الكبائر وأنه مغفور وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكًا في أنه هل هو مغفور له أم لا، وبأنه لا شك أن الأنبياء أرفع حالًا من الأولياء، وقد قال الله تعالى فيهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] فكيف يعتقد بقاء الرسول وهو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكًا في أنه هل هو من المغفورين أم لا، وقد يقال: المراد أيضًا أنه عليه الصلاة والسلام ما يدري ذلك على التفصيل، وما ذكر لا يتعين فيه حصول العلم التفصيلي لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد أعلم بذلك في مبدأ الأمر إجمالًا بل في إعلامه صلى الله عليه وسلم بعد بحال كل شخص شخص على سبيل التفصيل بأن يكون قد أعلم عليه الصلاة والسلام بأحوال زيد مثلًا في الآخرة على التفصيل وبأحوال عمرو وكذلك وهكذا توقف.
وفي صحيح البخاري وأخرجه الإمام أحمد. والنسائي. وابن مردويه عن أم العلاء، وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت لما مات عثمان بن مظعون: رحمة الله تعالى عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله تعالى أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل بي ولا بكم. قالت أم العلاء: فوالله ما أزكي بعده أحدًا» وفي رواية ابن حبان والطبراني عن زيد بن ثابت:«أنها قالت لما قبض: طب أبا السائب نفسك إنك في الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك؟ قالت: يا رسول الله عثمان بن مظعون قال: أجل وما رأينا إلا خيرًا والله ما أدري ما يصنع بي» وفي رواية الطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس: «أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة: هنيئًا لك ابن مظعون الجنة فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر مغضب وقال: وما يدريك؟ والله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل الله بي فقالت: يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم فقال: أرجو له رحمة ربه تعالى وأخاف عليه ذنبه» لكن في هذه الرواية أن ابن عباس قال: وذلك قبل أن ينزل: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وعن الضحاك المراد لا أدري ما أومر به ولا ما تؤمرون به في باب التكاليف والشرائع والجهاد ولا في الابتلاء والامتحان، والذي اختاره أن المعنى على نفي الدراية من غير جهة الوحي سواء كانت الدراية تفصيلية أو إجمالية وسواء كان ذلك في الأمور الدنيوية أو الأخروية وأعتقد أنه صلى الله عليه وسلم لم ينتقل من الدنيا حتى أوتي من العلم بالله تعالى وصفاته وشؤنه والعلم بأشياء يعد العلم بها كمالًا ما لم يؤته أحد غيره من العالمين، ولا أعتقد فوات كمال بعدم العلم بحوادث دنيوية جزئية كعدم العلم بما يصنع زيد مثلًا في بيته وما يجري عليه في يومه أو غده، ولا أرى حسنًا قول القائل: إنه عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب واستحسن أن يقال بدله: إنه صلى الله عليه وسلم أطلعه الله تعالى على الغيب أو علمه سبحانه إياه أو نحو ذلك، وفي الآية رد على من ينسب لبعض الأولياء علم كل شيء من الكليات والجزئيات، وقد سمعت خطيبًا على منبر المسجد الجامع المنسوب للشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره يوم الجمة قال بأعلى صوت: يا باز أنت أعلم بي من نفسي، وقال لي بعض: إني لأعتقد أن الشيخ قدس سرهع يعلم كل شيء مني حتى منابت شعري، ومثل ذلك مما لا ينبغي أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف ينسب إلى من سواه؟ فليتق العبد مولاه، وفيما تقدم من الأخبار في شأن عثمان بن مظعون رد أيضًا على من يقول فيمن دونه في الفضل أو من لم يبشره الصادق بالجنة والكرامة نحو ما قيل فيه.
نعم ينبغي الظن الحسن في المؤمنين أحياء وأمواتًا ورجاء الخير لكل منهم فالله تعالى أرحم الراحمين، هذا والظاهر أن {مَا} استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء والجملة بعدها خبر وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها الفعل القلبي وهو إما متعد لواحد أو اثنين، وجوز أن تكون {مَا} موصولة في محل نصب على المفعولية لفعل الدراية وهو حينئذ متعد لواحد والجملة بعدها صلة، وأن تكون حرفًا مصدريًا فالمصدر مفعول {أَدْرِى} والاستفهامية أقضي لحق مقام التبري عن الدراية، و{لا} لتذكير النفي المنسحب على {مَّا يَفْعَلُ} إلخ وتأكيده، ولولا اعتبار الانسحاب لكان التركيب ما يفعل بي وبكم دون {لا} لأنه ليس محلًا للنفي ولا لزيادة لا ونظير ذلك زيادة {مِنْ} في قوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ أَنَّ *يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ} [البقرة: 105] لانسحاب النفي فإنه إذا انتفت ودادة التنزيل انتفى التنزيل، وزيادة الباء في قوله سبحانه: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَ السموات والارض وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} [الأحقاف: 33] لانسحاب النفي، على أن مع ما في حيزها ولولاه ما زيدت الباء في الخبر، وقيل: الأصل ولا ما يفعل بكم فاختصر، وقيل: ولا بكم، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة {يَفْعَلُ} بالبناء للفاعل وهو ضمير الله عز وجل: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي على معنى قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على اتباع الوحي، والمراد بالفعل ما يشمل القول وغيره. وهذا جواب عن اقتراحهم الاخبار عما لو يوح إليه عليه الصلاة والسلام من الغيوب، والخطاب السابق للمشركين.
وقيل: عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا عن أذية المشركين والخطاب السابق لهم، والأول أوفق لقوله تعالى: {وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ} أنذركم عقاب الله تعالى حسا يوحى إلى {مُّبِينٌ} بين الإنذار بالمعجزات الباهرة، والحصر إضافي. وقرأ ابن عمير {يُوحَى} على البناء للفاعل.


{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)}
{قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ} أي ما يوحى إلي من القرآن، وقيل: الضمير للرسول، وفيه أن الظاهرة لو كان المعنى عليه كنت {مِنْ عِندِ الله} لا سحرًا ولا مفتري كما تزعمون {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} الواو للحال والجملة حال بتقدير قد على المشهور من الضمير في الخبر وسطت بين أجزاء الشرط اهتمامًا بالتسجيل عليهم بالكفر أو للعطف على {كَانَ} كما في قوله تعالى: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت: 52] وكذا الواو في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل} إلا أنها تعطفه اعطف عليه على جملة ما قبله، فالجمل المذكورات بعد الواوات ليست متعاطفة على نسق واحد بل مجموع {شَهِدَ} {قُلْ أَرَءيْتُمْ} معطوف على مجموع {كَانَ} وما معه، مثله في المفردات {هُوَ الاول والاخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3] والمعنى أن اجتمع كونه من عند الله تعالى مع كفركم واجتمع شهادة الشاده فإيمانه مع استكباركم عن الايمان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في جواب الشرط وفي مفعولي {أَرَءيْتُمْ} وضمير {بِهِ} عائد على ما عاد عليه اسم كان وهو ما يوحي من القرآن أو الرسول، وعن الشعبي أنه للرسول، ولعله يقول في ضمير {كَانَ} أيضًا كذلك وكذا في ضمير {على مِثْلِهِ} لئلا يلزم التفكيك. وأنت تعلم أن الظاهر رجوع الضمائر كلها للقرآن، وتنوين {شَاهِدٌ} للتفخيم، وكذا وصفه بالجار والمجرور أي وشهد شاهد عظيم الشأن من بني إسرائيل الواقفين على شؤن الله تعالى وأسرار الوحي بما أوتوا من التوراة على مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك فإنها في الحقيقة عين ما فيه كما يعرب عنه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاولين} [الشعراء: 196] على وجه، وكذا قوله سبحانه: {إِنَّ هذا لَفِى الصحف الاولى} [الأعلى: 18] والمثلية باعتبا رتأديتها بعبارات أخرى أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى والمثلية لما ذكر، وقيل: على مثل شهادته أي لنفسه بأنه من عند الله تعالى كأنه لإعجازه يشهد لنفسه بذلك، وقيل مثل كناية عن القرآن نفسه للمبالغة، وعلى تقدير كون الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم فسر المثل وسى عليه السلام.
والفاء في قوله تعالى: {فَئَامَنَ} أي بالقرآن للسببية فيكون إيمانه مترتبًا على شهادته له طابقته للوحي، ويجوز أن تكون تفصيلية فيكون إيمانه به هو الشهادة له، والمعنى على تقدير أن يراد فآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم ظاهر بأدنى التفاوت، وقوله تعالى: {واستكبرتم} أي عن الايمان معطوف على ما أشرنا إلليه {شَهِدَ شَاهِدٌ} وجوز كونه معطوفًا على {مِن} لأنه قسيمه ويجعل الكل معطوفًا على الشرط، ولا تكرار في {استكبرتم} لأن الاستكبار بعد الشهادة والكفر قبلها، وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي الموسومين بهذا الوصف، استئناف بياني في مقام التعليل للاستكبار عن الايمان، ووصفهم بالظلم للاشعار بعلة الحكم فتشعر هذه الجملة بأن كفرهم به لضلالهم المسبب عن ظلمهم وهو دليل جواب الشرط ولذا حذف ومفعولًا {أَرَءيْتُمْ} محذوفان أيضًا لدلالة المعنى عليهما، والتقدير أرأيتم حالكم إن كان كذا فقد ظلمتم ألستم ظالمين، فالمفعول الأول حالكم والثاني ألستم ظالمين، والجواب فقد ظلمتم، وقال ابن عطية: في {أَرَءيْتُمْ} يحتمل أن تكون منبهة فهي لفظ موضوع للسؤال لا تقتضي مفعولًا، ويحتمل أن تكون جملة {إِن كَانَ} إلخ سادة مسد مفعوليها، وهو خلاف ما قرره محققو النحاة في ذلك.
وقدر الزمخشري الجواب ألستم ظالمين بغير فاء. ورده أبو حيان بأن الجملة الاستفهامية إذا وقعت جوابًا للشرط لزمها الفاء فإن كانت الأداة الهمزة تقدمت على الفاء وإلا تأخرت، ولعله تقدير معنى لا تقدير إعراب، وقدره بعضهم أفتؤمنون لدلالة {فَئَامَنَ} وقدره الحسن فمن أضل منكم لقوله تعالى: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52] وقوله سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} وقيل: التقدير فمن المحقق منا ومنكم ومن المبطل؟ وقيل: تهلكون، وقيل: هو {قُلْ أَرَءيْتُمْ} أي فقد آمن محمد صلى الله عليه وسلم به أو الشاهد واستكبرتم أنتم عن الايمان، وأكثرها كما ترى.
والشاهد عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه عند الجمهور. وابن عباس. والحسن. ومجاهد. وقتادة. وابن سيرين. والضحاك. وعكرمة في رواية ابن سعد. وابن عساكر عنه. وفي الكشف في جعله شاهدًا والسورة مكية بحث ولهذا استثنيت هذه الآية، وتحقيقه أنه نزل ما سيكون منزلة الواقع ولهذا عطف {شَهِدَ} وما بعده على قوله تعالى: {كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ} ليعلم أنه مثله في التحقيق فيكون على أسلوب قوله سبحانه: {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} [الحجر: 90] أي أنذر قريشًا مثل ما أنزلناه على يهود بني قريظة وقد أنزل عليهم بعد سبع سنين من نزول الآية، ومصب الإلزام في قوله تعالى: {فَئَامَنَ} كأنه قيل: أخبروني إن يؤمن به عالم من بني إسرائيل أي عالم لما تحقق عنده أنه مثل التوراة ألستم تكونون أضل الناس، ففي الدلالة على أنه مثل التوراة يجب الايمان به شهد ذلك الشاهد أو لم يشهد لأن تلك الشهادة يعقبها الايمان من غير مهلة فلو لم يؤمن لم يكن عالمًا بما في التوراة؛ وهذا يصلح جوابًا مستقلًا من غير نظر إلى الأول فافهم، وقول من قال: الشاهد عبد الله على هذا بيان للواقع وأنه كان ممن شهد وآمن لا أن المراد بلفظ الآية عبد الله خصوصًا، وعلى الوجهين لابد من تأويل من قول سعد، وقد تقدم في حديث الشيخين وغيرهما وفيه نزل: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} بأن المراد في شأنه الذي سيحدث على الأول أو فيه وفيمن هو على حاله كأنه قيل: هو النازلين فيه لأنه كان من الشاهدين انتهى.
وتعقب قوله: إنه نزل ما سيكون منزلة الواقع بأنه لا حاجة إلى ذلك التنزيل على تقدير مكيتها، وكون الشاهد ابن سلام المكان العطف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلًا وحينئذ لا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ومع هذا فالظاهر من الأخبار أن النزول كان في المدينة وأنه بعد شهادة ابن سلام. أخرج أبو يعلى. والطبراني والحاكم بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أروني اثني عشر رجلًا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله يحبط الله تعالى عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد ثم رد عليهم عليه الصلاة والسلام فلم يجبه أحد فثلث فلم يجبه أحد فقال: أبيتم فوالله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفى آمنتم أو كذبتم ثم انصرف صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم فينا رجلًا أعلم بكتاب الله تعالى ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك قال: فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه في التوراة والإنجيل فقالوا: كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شرًا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وابن سلام فأنزل الله تعالى: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل} الآية، وروى حديث شهادته وإيمانه على وجه آخر، ولا يظهر لي الجمع بينه وبين ما ذكر، وهو أيضًا ظاهر في كون النزول بعد الشهادة. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: جاء ميمون بن يامين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان رأس اليهود بالمدينة فأسلم وقال: يا رسول الله ابعث إليهم يعني اليهود فاجعل بينك وبينهم حكمًا من أنفسهم فإنهم سيرضوني فبعث عليه الصلاة والسلام إليهم وأدخله الداخل فأتوه فخاطبوه مليًا فقال لهم: اختاروا رجلًا من أنفسكم يكون حكمًا بيني وبينكم قالوا: فإنا قد رضينا يمون بن يامين فأخرجه إليهم فقال لهم ميمون: لنشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه على الحق فأبوا أن يصدقوه فأنزل الله تعالى فيه {قُلْ أَرَءيْتُمْ} الآية، وهو ظاهر في مدنية الآية وأن نزولها قبل شهادة الشاهد لكنه ظاهر في أن الشاهد غير عبد الله بن سلام، وكونه كان يسمى بذلك قبل لم أره، ولا يظهر لي وجه التعبير به دون المشهود إن كان، والذي رأيته في الاستيعاب في ترجمة عبد الله ابن سلام بن الحرث الإسرائيلي الأنصاري يكنى أبا يوسف وكان اسمه في الجاهلية الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله والله تعالى أعلم.
ومن كذب اليهود وجهلهم بالتاريخ ما يعتقدونه في عبد الله بن أنه صلى الله عليه وسلم حين سافر إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله تعالى عنها اجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه فعلموا أنه صابح دولة فأصحبوه عليه السلام سلام وبقي معه مدة فتعلم منه علم الشرائع والأمم السالفة وأفرطوا في الكذب إلى أن نسبوا القرآن المعجز إلى تأليف عبد الله بن سلام وعبد الله هذا مما ليس له إقامة كة ولا تردد إليها، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم إلا في المدينة وأسلم إذ قدمها عليه الصلاة والسلام أو قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بعامين على ما حكاه في البحر عن الشعبي، فما أكذب اليهود وأبهتهم لعنهم الله تعالى، وناهيك من طائفة ما ذم في القرآن طائفة مثلها.
وأخرج سعيد بن منصور. وابن جرير. وابن المنذر عن مسروق أن الشاهد هو موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وقد تقدم أنه كان يدعي مكية الآية وينكر نزولها في ابن سلام ويقول: إنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلى الله عليه وسلم، وكأنه على هذا لا يحتاج إلى القول بأنها نزلت بخصوص شاهد، وأيد عدم إرادة الخصوص بأن {شَاهِدٌ} في الآية نكرة والنكرة في سياق الشرط تعم، وأنا أقول: بكون التنوين في {شَاهِدٌ} للتعظيم ودنية الآية ونزولها في ابن سلام، والخطابات فيها مطلقًا لكفار مكة، ورا يظن على بعض الروايات أنها لليهود وليس كذلك، وهم المعنيون أيضًا بالذين كفروا في قوله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8